إقصائية التفسير العلمي والديني... نماذج وآثار سلبية!
د.الشريف حاتم العوني
عندما يحصل حدَثٌ سياسيٌّ كبير، فيسقط نظامٌ مستبدّ وتزول حكومةٌ فاسدة، وعندما تقع كارثةٌ طبيعية (زلزال أو فيضان)، أو تحدث ظاهرةٌ كونية (الكسوف أو الخسوف): تخرج علينا دائمًا التفسيرات المتصارعة، ذوات الآراء الأُحادية الحادة، والتي لا تذكر ولا تريد إلا تفسيرًا واحدًا، بل تُسَفِّهُ أو تُـجَهِّلُ أو تُكَفِّـرُ أيَّ تفسيرٍ آخر.
فيخرج علينا بعض الطبيعيين، لا ليذكروا التفسير الطبيعي (وذِكْرُه عِلْمٌ نحترمه ونحتاجه)، لكن بنفي أي علاقة بين التفسير الطبيعي والتفسير الإيماني الذي يربط تلك الأحداث الطبيعية بالإرادة الإلهية وبالحكمة الربانية، وكأنهم قادرون على نفيِ أو إثباتِ لحظة الإرادة الربانية ! متى يريد ربُّنا عز وجل ومتى لا يريد! أو كأن حِكمةَ الله تعالى مما يمكن أن يحيط بها خلقُه! أو كأن خَلْقَ الله تعالى لقوانين الطبيعة وللسنن الكونية (التي يَقْصُرُون عليها تفسيرَهم) أمرٌ منافٍ لخضوع الكون كله (بقوانينه وسننه) لحُكم الله تعالى وسلطانه عز وجل، وأنه إنما يسير وَفْقَ حكمة الله البالغة وعلمه الغيب. وهذا خطأ علمي، ما كان لأحد (خصوصاً أصحاب المنهج العلمي) أن يقعوا فيه:
- فإنهم إن كانوا يؤمنون بوجود الخالق، فهم يعلمون علم اليقين أنهم لا يحيطون به علمًا (سبحانه وتعالى)، فلا يمكنهم أن يعرفوا كيف يُسيّر الله تعالى إرادته في تلك القوانين والسنن التي خلقها وأبدعها. والمنهج العلمي الذي يتبنونه لا يجيز الكلام في شيءٍ أو عن شيء بغير علم، فكيف يسمح أهل العلم الطبيعي لأنفسهم أن يتكلموا بغير علم، ضاربين في هذا الموقف بمنهجهم العلميِّ عُرْضَ الحائط.
- أما إن كان هؤلاء الطبيعيون من الملاحدة الذين لا يؤمنون بوجود الإله، فلا يحق لهم نفي أو إثبات علاقة حوادث الطبيعة بإرادة الله؛ إلا بأن يُصرّحوا بأنهم ينفون تلك العلاقة لإنكارهم وجود الخالق أصلاًَ؛ ليكون كلامهم لا لبس فيه ولا غموض، وليعرف الناس المنطلَقَ الفكريَّ لدعواهم. ومعرفة المنطلق الفكري أساسٌ علميٌّ، لا يصح أن يخفيه أدعياءُ المنهج العلمي!
لكن الواقع أن هؤلاء كثيرًا ما يتجنبون التصريح بإلحادهم في العادة؛ لأنهم يعلمون أنهم بذلك سيصادمون فِطَرَ الناس، وسيرفضُ الناس نفيهم وإثباتهم المعتمد على أساس الإلحاد؛ لأنه أساسٌ بلا أساس؛ مرفوضٌ عند البشر فِطْريًّا، ومنقوضٌ لديهم علميًّا.
وأما أصحاب التفسير المادي: فسيخرجون علينا: ليحصروا أسبابَ سقوط الأنظمة المستبدة بالفساد المالي والفقر والبطالة، وبالفساد الإداري وتَولِّي غير الأكفاء للمناصب، ونحو ذلك من الأسباب المادية الظاهرة. وهذه الأسباب ولا شك هي أسبابٌ حقيقيةٌ لسقوط الدول، ولا بد من التأكيد عليها في أول ما نَذْكُـرُه من الأسباب، وغير مقبول بأي دعوى إغفالُها أو التهوين منها، بل يجب أن نبني تصوّرَنا على أنه لا يمكن أن يتحقق الإصلاح إلا بتصحيح أمرها، وبتفادي أخطائها وبتجاوز أخطارها. لكن لا يصح أن يكون هذا التفسير بديلاً عن التفسير الإيماني، الذي يعتمد على أن الله يمهل ولا يهمل، وأن الظلم أسرع المعاصي عقوبةً، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله تعالى حجاب، وأن شيوع الفساد الديني سببٌ لاختلال الأحوال وتَبدُّلِ النِّـعَمِ وزوالها. فلا تَنافي بين التفسيرين، بل هما (في الحقيقة) تفسيرٌ واحدٌ من وجهين!
وسيخرج علينا بعض من يتكلمون باسم الدين، جاعلين كل بلاءٍ عقوبة إلهية، رافضين كل تفسير طبيعي ومادي، مستخِفّين بكل تلك التفسيرات العلمية، ومتهمين كلَّ من يذكرها بضعف التَّديُّنِ أو بانعدام الإيمان. بل لا أحسب أحدًا يضيق صدره بأي اكتشاف يفسر لنا قوانينَ الطبيعة، ويحارب كل اختراع يعين على التنبؤ المادي ببعض الأحداث الكونية (من أمطارٍ ورياحٍ وخسوف وكسوف)، من هؤلاء الذين يتعجّلون الكلام في الدين بغير فقه! فهم لجهلهم بحقيقة الدِّين، قد أبغضوا العلمَ دون أن يشعروا، واختلقوا عداوةً بين الدين والعلم دون أن يعلموا.
ولا أدري لماذا لا تكون للأحداث عند هؤلاء جميعًا أسبابٌ عديدة؟! لماذا نميل إلى مثل هذه الحِدّيّةِ والإقصائية، حتى في التفسير والتحليل وتعيين الأسباب؟! لماذا لا يقبل الطبيعيون أن تكون بعضُ كوارث الطبيعة والأحداث الكونية عقوباتٍ إلهية أحيانًا، أو من أنواع الاختبار الإلهي المختلفة (غير العقوبة): أنشكر أم نجحد النعمة ؟ أنصبر، أم نجزع ونعترض على القضاء ؟ أنؤمن أم نكفر؟!
فليس هناك تَعارُضٌ بين معرفة السبب الطبيعي للزلزال أو البركان والريح ومعرفةِ السبب الإيماني لذلك كله. فلماذا ينفي بعضُ الطبيعيين هذه العلاقة؟! وما دليلهم عليه؟!
إن نفي بعض من يتكلمون باسم الدين للأسباب الطبيعية ينبغي ألا يكون داعيًا لرفض بعض الطبيعيين للأسباب الإيمانية.
وخطأُ بعض الشرعيين في فهم بعض النصوص الشرعية، كفهمهم لتخويف الله عباده بالخسوف والكسوف: أنهما لن يكونا تخويفًا ولن يقع بهما التخويف؛ إلا إذا دلا على غضب الله، بسبب كثرة الذنوب. وهو (ولا شك) تفسيرٌ خاطئٌ للنص الصحيح الوارد (فلا صرح النص بذلك التفسير، ولا اقتصر سبب التخويف عليه)= لا يصح أن يكون هذا التفسير الخاطئ سببًا لتشكيك الطبيعيين في المعنى الإيماني الذي يمكن أن يستفيده المسلم من الكسوف والخسوف، رغم معرفة سببهما وتحديد زمنهما ومكان إمكان رؤيتهما بدقة كبيرة جدًّا؛ لأن معرفة السبب الفلكي وتحديد زمن ومكان إمكان الشعور بالكسوف والخسوف كل ذلك لا ينافي أن المسلم الذي يتلمّسُ العِبرَ ويَتلقّطُ العظاتِ سوف يتذكّر بالكسوف والخسوف يومَ القيامة، يوم تكويرِ الشمس وخَسْفِ القمر، فتحصل له العظة ويستشعر الخوفَ بتذكُّرِه لذلك اليوم العظيم (يوم الحساب والجزاء). كما لا ينافي تعيين العلم لسبب الكسوف والخسوف أيضا تذكيرَ المؤمن بقدرة الله تعالى على سلب النعم وتغيير الأحوال، فمخالفة العادة في شروق الشمس وبزوغ القمر أمرٌ داعٍ للتفكير في هاتين النعمتين العظيمتين، فيقوده ذلك التفكيرُ والتأمُّلُ إلى الخوف والتعظيم والشكر لله تعالى، خوفًا من زوال النعمة وحلول النقمة. فلا داعي لنفي بعض الطبيعيين لعلاقة الكسوف والخسوف بالتخويف من الرب الجليل سبحانه، ما دام ذلك التخويف لا ينافي التفسيرَ العلمي، ولا يُشكِلُ عليه بأي إشكال! كما لا يصح أن يكون خطأُ بعض الطبيعيين في الاقتصار على التفسير الطبيعي وحده، مع نفي السبب الإيماني أو الأثر الإيماني المستفاد منه: داعيًا لنفي التفسير العلمي والطبيعي، واختلاق عداوة بين العلم والإيمان.
وعندما ينفي بعضُ أصحاب التفسير المادي أثر الفساد الديني في زوال الدول، ويستخفُّون بدعوة المظلوم أن تكون سببًا من أسباب سقوط الأنظمة: لا يجوز أن يقود ذلك الشرعيين إلى المبالغة في التهوين من أثر الأسباب المادية، في مقابل المبالغة في التهويل من أثر بعض المعاني الإيمانية التي هي من أسباب زوال الدول وسقوط الأنظمة ولا شك:
أولاً: لأن الاستبداد والظلم في الاستئثار بالثروات والمناصب وغير ذلك من صور الظلم كلها ذنوب كبار ومعاصي مهلكة، فوق كونها أيضًا أسبابًا ماديةً لزوال الدول وسقوط الأنظمة. واعتبارها أسبابًا مادية، وحصر الذنوب في الزنا والربا أو غيرها: خطأ شرعي كبير، قبل أن يكون خطأ تحليليًّا في تفسير أسباب ذلك الزوال والسقوط.
ثانياً: أن جَعْلَ دعوةِ المظلوم سببًا أكبر للزوال والسقوط يفوق في كبره الظلمَ نفسَه لا دليل عليه من الكتاب والسنة، وهو خلل شرعي، ونوعُ دَروشةٍ وخرافة (تَغييبٍ للعقل) في فهم نصوص الشرع. وهو يذكرني بنفي أثر الأسباب الذي مال إليه بعض الأشعرية، مخالفين في ذلك الحس والتجربة والعادة الجارية. فالظلم سببٌ مادي لزوال الدول، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن العدل يقيم الدولة الكافرة وإن الظلم ليزيل الدولة المؤمنة.
ودعوة المظلوم وأثر بعض الذنوب في السقوط والزوال لا يلزم من الإيمان به الكفر بأسباب دل الشرع (بنقله وعقله) أنه سبب أكبر من أسبابها.
لقد بلغت الحِدّيّةُ عند بعض جهلة المتحدثين باسم الدين، لا إلى الاقتصار فقط على التفسير الإيماني، وتكذيبِ السبب العلمي أو التهوين منه! بل تجاوزوا هذا الحد من الحدية إلى حديةٍ ضمن التفسير الإيماني أيضاً! فيحصرون السبب الإيماني للكوارث الطبيعية في الغضب الإلهي فقط، فلا تكون تلك الكوارثُ عند هؤلاء إلا من باب التعجيل بعقوبة الفجار على معاصيهم ! مع أن نصوص الشرع قد دلّت على أن الله تعالى قد يصيب عبادَه بالبلاء لأسباب عديدة: عقوبةً، وكفارةً، ورفعةً في الدرجات، واختبارًا، وتمحيصًا، وأن له تعالى حِكَمًا عديدةً لا يحصيها إلا هو، وأنه تعالى قد يبتلي من يحب ومن لا يحب، وقد تَعُمُّ العقوبةُ الدنيويةُ الصالحين والطالحين ثم يُبعثون على نياتهم.
إن هذا النوع من الحدية في التحليل والتفسير فوق كونها خطأً علميًّا، فهي أيضًا:
- لها آثارُها السلبية على المجتمع: بخلق صراعاتٍ تُـفَـتِّتُ وَحْدَتَه.
- ولها آثارها على منهج النظر: بتضييق أُفُقه، وانتقاصِ خياله.
- وعلى المزاج: بإقصائه عن الاعتدال.
- وعلى الفكر والقلب: باختلاق معاركَ وهميةٍ بينهما، من خلال التناقض الذي يُرسِّخُه: بين العلم والإيمان، وبين عالم الشهادة وعالم الغيب.
ولن يربح من ذلك كلِّه: لا الإيمان ولا العلم، ولن يغلب بذلك الطبيعيون ولا الماديون ولا الشرعيون. بل المنتصر في مثل هذا الطرح هو التفريقُ والتشرذمُ والاحتقانُ الفكريِّ والاجتماعي، وسينتصر فيه أيضًا الجهلُ والتعصُّبُ وضيقُ الأفق.
تاريخ النشر : 1435/07/19 هـ
المصدر لموقع فضيلة الشيخ الشريف حاتم بن عارف العونيا
No comments:
Post a Comment